التكنولوجيا والعدالة.. كيف ينصف الذكاء الاصطناعي حقوق السكان الأصليين؟
التكنولوجيا والعدالة.. كيف ينصف الذكاء الاصطناعي حقوق السكان الأصليين؟
مع تسارع التطور في تقنيات الذكاء الاصطناعي، يجد السكان الأصليون أنفسهم أمام تحديات جديدة قد تعيد إنتاج أنماط التهميش التي عانوها قرونًا طويلة، فبينما تُرفع شعارات الابتكار والتقدم، يثير استخدام هذه التقنيات مخاوف عميقة لدى المجتمعات الأصلية حول حماية هويتهم وثقافاتهم ومعارفهم، وضمان أن تكون مشاركتهم في صياغة المستقبل الرقمي مشاركة فعلية قائمة على الحقوق والعدالة.
وشهدت الدورة الثامنة عشرة لآلية الخبراء المعنية بحقوق الشعوب الأصلية في الأمم المتحدة (EMRIP) نقاشًا موسعًا حول موضوع العام: "الشعوب الأصلية والذكاء الاصطناعي: الدفاع عن الحقوق ورسم ملامح المستقبل"، حيث تبادل ممثلو مجتمعات أصلية من كندا والولايات المتحدة تجاربهم ورؤاهم بشأن كيفية ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة تمكين لا أداة إقصاء.
أصوات من قلب المجتمعات الأصلية
وبحسب تقرير نشرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان، لخصت شاني غوين، وهي كندية من أصول الميتي ومن سلالة أمة ميشيل الأولى، الفكرة بعبارة حادة: "يعتقد الكثيرون أننا شعب من الماضي، لكننا شعب حديث وقديم في آن"، بالنسبة لها، لا يتعلق الأمر بمجرد حضور رمزي في الفعاليات الدولية، بل بفرصة لتغيير السرد السائد، وتصحيح الصور النمطية التي طالما جرّدت السكان الأصليين من إنسانيتهم.
راستي بيكينز، من قبيلة تشيكاسو في أوكلاهوما، شدد على أن البيانات -وهي جوهر الذكاء الاصطناعي- تمثل بالنسبة للشعوب الأصلية موردًا ثقافيًا ولغويًا وفنيًا ثمينًا، لا يقل أهمية عن الأرض أو الموارد الطبيعية التي تعرضت للاستغلال تاريخيًا، وقال: "البيانات هي ثقافتنا ولغتنا وأعمالنا الفنية، وهي شخصية للغاية، ولأنها قيّمة، يسعى البعض وراءها دون موافقتنا".
أما كاريسا تشانغ من قبيلة شينوك في شمال غرب المحيط الهادئ، فحذرت من خطر "تجميد" لغات السكان الأصليين في الزمن إذا تم حفظها بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي دون مشاركة المجتمعات نفسها، مؤكدة أن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل وعاء للهوية والرؤية للعالم.
الاستعمار الرقمي
يشير خبراء حقوق الإنسان إلى أن ما يواجهه السكان الأصليون اليوم هو شكل جديد من الاستعمار، يعرف بـ"الاستعمار الرقمي"، وكما تم الاستيلاء على أراضيهم ومواردهم في الماضي، هناك الآن محاولات للسيطرة على بياناتهم ومعارفهم التقليدية وتحويلها إلى موارد تجارية من دون موافقتهم.
وأكد تقرير صادر عن المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الشعوب الأصلية عام 2023 أن حماية الملكية الفكرية والمعارف التقليدية في البيئة الرقمية تمثل أولوية عاجلة، وحذر من أن الشركات الكبرى قد تستخدم الذكاء الاصطناعي لتجميع هذه المعارف واستغلالها اقتصاديًا، مما يهدد السيادة الثقافية للشعوب الأصلية.
ضمن هذه الجهود، طورت شركة غوين "واسيكان كيسواتيسوين" أو “الذكاء الاصطناعي ذو القلب”، وهو نموذج ذكاء اصطناعي صُمم بمنظور أمومي قائم على رعاية المجتمع والمساواة، ويهدف إلى كشف وتصحيح التحيزات العنصرية ضد السكان الأصليين في النصوص المكتوبة. هذه المبادرة تمثل مثالًا على كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة إنصاف إذا طورت بقيادة المجتمعات نفسها.
القانون الدولي والإطار الحقوقي
إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية (2007) ينص على حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها والتحكم في معارفها ومواردها الثقافية، بما في ذلك البيانات، ويؤكد الإعلان أيضًا مبدأ "لا شيء عنا بدوننا"، وهو ما يتبناه الناشطون قاعدة أساسية لضمان ألا تُصمم تقنيات الذكاء الاصطناعي أو تُستخدم في سياقهم إلا بمشاركتهم الفعلية.
كما أن اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 169 تدعو إلى حماية ثقافات السكان الأصليين وضمان مشاركتهم في القرارات المؤثرة على حياتهم، هذه الأطر القانونية توفر أساسًا دوليًا للمطالبة بسيادة البيانات وضمان أن التحول الرقمي لا يتحول إلى أداة إقصاء جديدة.
ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 476 مليون شخص من السكان الأصليين في نحو 90 دولة حول العالم، ويمثلون أكثر من 5% من سكان العالم، لكنهم يشكلون نحو 15% من فقراء العالم، ويقدر البنك الدولي أن نسبة الأمية الرقمية في مجتمعات السكان الأصليين تزيد بنحو 30% عن المتوسط الوطني في معظم الدول، ما يعمق الفجوة في الاستفادة من التكنولوجيا.
مواقف حقوقية وأممية
مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعلنت في بيان حديث أنها توسع من مشاركتها في قضايا الذكاء الاصطناعي لضمان ألا تتحول هذه التقنيات إلى أداة تهميش للسكان الأصليين، بل إلى وسيلة تمكين لهم كونهم مطورين ومستخدمين وملاكاً لبياناتهم.
كما دعت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى وضع أطر تنظيمية دولية ملزمة تضمن مشاركة المجتمعات الأصلية في صياغة سياسات الذكاء الاصطناعي، وحماية بياناتهم من الاستغلال التجاري أو التلاعب السياسي.
ويتفق الناشطون والخبراء على أن الطريق نحو ذكاء اصطناعي أخلاقي لا يمر فقط عبر القوانين أو السياسات التقنية، بل عبر إعادة تعريف علاقة التكنولوجيا بالمجتمع، وضمان أن تكون المجتمعات الأصلية شريكة كاملة في تصميم المستقبل الرقمي.
ويقول بيكينز: "الأمر ليس أن تمنحنا الحكومات أو الشركات مقعدًا على الطاولة، بل أن نعتمد طاولتنا الخاصة ونحدد قواعدنا بأنفسنا".
تاريخ السكان الأصليين مع القوى الاقتصادية والسياسية الكبرى مليء بمحاولات الإقصاء والاستحواذ على الموارد. من الاستعمار الأوروبي للأراضي إلى الاستيلاء على الموارد الطبيعية، مرّت هذه الشعوب بموجات متكررة من التجريد من الحقوق، واليوم، يرى الكثيرون في الذكاء الاصطناعي امتدادًا لهذه العملية في الفضاء الرقمي، ما لم تتوفر ضمانات حقيقية تحمي حقهم في تقرير المصير والسيادة على بياناتهم.